الأحد، 26 أكتوبر 2008
الأربعاء، 3 سبتمبر 2008
بسم الله الرحمن الرحيم
الرياض/ من أجل الحوار الوطني
بين الثابت والمتغير
في البدء قامت الخليقة بأمر الـله (كُن) لتحمل طياتها السنن الكونية، التي منها الثابت والمتغير. فلو كان كلُ شيءٍ ثابتاً، لما أُطيعَ أمرُ الـله(أتينا طائعين). ولو كان كلُ شيءٍ متغيراً، لعمَّت الفوضى المطلقةُ. لذا وضع الـلهُ الميزان بين الثابت والمتغير، وقال: (ألا تطغوا في الميزان). و حين نتحدث عن الثابت والمتغير، تصبح الأمور نسبيةً. فمثلاً هناك من قال: "لا ثابت إلا المتغير". ولو تأملنا هذه المقولة قليلاً، لفَطِّنا إلى أن قائلها ليس مؤمناً بالـلهٍ، لأن الثابت الوحيد الذي لا يخضع للتغيير أو النسبية هو الخالق عزوجل (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) هو ثابتٌ بالأزلية، أما غير ذلك من الثوابت فبإرادته تعالى.
لقد أرسل الـلهُ لنا الرسلَ ليعلمونا بالدرجة الأولى كيف نتعامل مع الثوابت والمتغيرات. وحتى الرسل مع مرور الزمن تغيروا على رسالةٍ ثابتة، إلى أن انتهوا عند خاتم الأنبياء والمرسلين؛ محمد صلى الله عليه وسلم أنزل عليه القرآن الكريم ثابتا لنا. وارتضى الـله أن تكون أعمال رسولنا وحبيبنا وأقواله ثوابتا لنا أيضا (ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهو). و نلاحظ أن رسولنا و سيدنا اعتمد منهاج الميزان في المعاملة بين الثابت و المتغير "خير الأمو أوسطها"، " ما خُيِّرتُ بين أمرين إلا و اخترت أيسرهما"
إذاً، حتى في الدين هناك ثوابتٌ ومتغيرات، وهناك متغيراتٌ داخل الثوابت أحيانا. القرآنُ والسنةُ من الثوابت، والمتغيرات في فهمنا وتفسيرنا للثوابت. من هنا بزغ علمُ الفقه، الذي تبلور تجاوباً وتفاعلاً من قبل علماء أفاضل وأجلاء مع المتغيرات. ومع مرور الوقت تكونت المذاهب الإسلامية الرئيسة: السنة والشيعة، وفي داخل كلٍ منهما تفرعاتٌ مذهبيةٌ معروفة. في الفقه الإسلامي دائماً كان هناك تجاوبٌ مع متغيراتِ الزمانِ والمكان. ولعل فتاوى الإمام الشافعي- رضي الله عنه- بين العراق ومصر خير دليلٍ على ذلك. وعليه فإنني أرى الفقه درة من بين العلوم؛ حيث أن القسم الأعظم منه اجتهادات في قضايا خلافية. وهنا أصلٌ لنقطةٍ أخرى؛ الثابت الأزلي لا يمكن تجاهله، حتى وإن أنكره البعض، لأنه معروف وأزلي.
والجميع يتفق على أنه هناك نظام واحد وأمر واحد (من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، فكان التكريس والترسيخ لمبدأ الحرية للإنسانية جمعاء تكريماً لها لتخضع للاستجابة للأمر بالحوار والإقناع والتفاهم (لا إكراه في الدين). بعد الإيمان، سنجد أنه حتى في الدين ثمة العديد من القضايا الخلافية الكثيرة جداً، فالقضايا المحسومة قليلةٌ. وحين يتم الاتفاق بين مجموعةٍ معينة على قضيةٍ خلافية معينة، يعني ذلك أنها ارتضت هذا الحكم ثابتاً لها. وإن اختلفت مجموعةٌ أخرى في الحكم على نفس المسألة- و نلحظ هذا حين نقارن بين المذاهب- فإن هذا الاختلاف ليس كافياً ليضع المجموعتين في خانة التضاد، بل يضعهما في خانة التكامل، بسبب الاتفاق على الثابت.
وحيث أن القضية خلافية من الأساس، وهذه النقطة تتباين معطياتها ومخرجاتها وفقا للزمان والمكان والبيئة، لذا نلحظ أن المصطفى صلى الله عليه وسلم فصل أموراً كثيرةً كسننٍ اختيارية مثل: آداب الجلوس وآداب الطعام، وترك أموراً أخرى دون تفصيل أو توضيح ليتولاها الناس وفق حالهم. وهذا يتجلى بوضوح في نظام الحكم في الإسلام، ودليلُ ذلك أن الناس اختلفت بعد وفاته على من يتولى الخلافة حتى اتفقوا على أبي بكر، فكانت هذه طريقة. وبدوره أوصى أبو بكرٍ رضي الله عنه بالخلافة للفاروق عمر، وهذه طريقةٌ أخرى، الذي جعلها شورى، فآلت لذي النورين عثمان رضي الله عنه، فكانت طريقة تختلف عن الطريقتين السابقتين. وبعدما استشهد عثمان رضي الله عنه اشتعلت الفتنة الكبرى على من يحكم.
إنني وجدت هذه المقدمة ضرورية وملائمة لقضية الساعة وحديث الناس”الحوار الوطني"، والتي سأخصص لها بعض حلقات من هذه الزاوية التي تبدأ اليوم. نتفق جميعا في أننا مسلمون، والإسلام ترك طريقة الحكم تتفاوت تبعاً لظروف البلدان المحكومة، وإن كانت في زمان واحد. وما لمسته من خلال المشاركة في فعاليات أو المتابعة لأصداء ملتقيات الحوار الوطني، وجدت أنها كانت- ولـلهٍ الحمد- اتفاقاً على من يحكم: آل سعود، وهم الثابت المحلي المتفق عليه. ولكن، بقي الحديث على شيء واحد؛ طريقة الحكم. إننا نستمع كثيراً إلى مقولة "كنا وصرنا .. لم يكن عندنا وأصبح عندنا"، وهذا قول جميل وحقيقي على معظم مناطق المملكة. فقط بقيت أشياء منها طريقة الحكم في حاجة إلى تطوير ومراجعة توائماً مع الزمان والثوابت والمتغيرات. ويحمد لسمو ولي العهد أن فطن لذلك، ولعل هذا ما فهمته كغاية رئيسية من الدعوة للحوار الوطني. ونهايةً، أدعو المواطنين والمثقفين على مختلف مشاربهم أن يمدوا يدهم لليد الممدودة، ليكون تطوير طريقة الحكم والاتفاق على الثوابت والمتغيرات ضمن أولويات محاور النقاش في الصحف والمنتديات وملتقيات الحوار القادمة والقائمة والتي ستقوم في المستقبل إن شاء الـلهُ.
أرشيف المدونة الإلكترونية
-
▼
2008
(3)
- ◄ 08/31 - 09/07 (2)